رئيس "مايكروسوفت" يراهن على الذكاء الاصطناعي.. هل سيصبح أسطورة أم يفقد وظيفته؟

العملاء القلقون والشراكة المتقلبة مع "أوبن إيه آي" أبرز التعقيدات التي يواجهها ساتيا ناديلا

time reading iconدقائق القراءة - 39
ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لـ \"مايكروسوفت\" - المصدر: بلومبرغ
ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لـ "مايكروسوفت" - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

وصل ساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لشركة "مايكروسوفت" إلى المنتدى الاقتصادي العالمي في يناير جاهزاً لاستعراض إنجازاته في مجال الذكاء الاصطناعي، حين باغته خطر لم يكن في الحسبان.

فقد أطلقت شركة صينية ناشئة مغمورة تدعى "ديب سيك" نموذج ذكاء اصطناعي أصبح سريعاً حديث الساعة في مؤتمر دافوس في سويسرا. بادر ناديلا إلى جمع فريقه لتقييم هذا المنافس الذي بدا وكأنه خرج من العدم، وأنشأوا غرفة عمليات افتراضية، عبر "مايكروسوفت تيمز" بطبيعة الحال، لتنسيق الاستجابة.

كان النموذج الجديد "ديب سيك-آر1" (DeepSeek-R1) قادراً على تقديم نتائج تقارب في مستواها تلك التي توفرها "أوبن إيه آي"، لكن بكلفة أقل بكثير. فعملية الحوسبة التي كانت تُكلّف نحو ألف دولار عبر "أوبن إيه آي"، لم تتجاوز كلفتها 36 دولاراً عبر "آر 1".

حتى أن "ديب سيك" جعلت "آر 1" مفتوح المصدر، ما يعني أن أي شخص يمتلك حاسوباً قوياً كفاية، يمكنه تحميله مجاناً. قال ناديلا في مقابلة مع "بلومبرغ بيزنس ويك": "كانت (أوبن إيه آي) متقدمة جداً في السباق لدرجة لم يقترب منها أحد... كان (ديب سيك)، وبالأخص (آر 1) النموذج الأول الذي أراه يسجل بعض النقاط". 

اقرأ أيضاً: "ديب سيك" تكشف ما غفلت عنه شركات الذكاء الاصطناعي الأميركية

بدا للنخب الحاضرة في دافوس أن النموذج الصيني سيطرح مشكلة كبرى لـ"مايكروسوفت" التي كانت قد استثمرت حتى ذلك الحين 13.75 مليار دولار في "أوبن إيه آي"، كما التزمت بإنفاق 80 مليار دولار إضافية خلال العام المالي الحالي وحده على مراكز بيانات مخصصة للذكاء الاصطناعي، على افتراض أن تحسين قدرات الذكاء الاصطناعي يتطلب المزيد من موارد الحوسبة.

على الفور، أصدر ناديلا تعليماته لفريقه بإجراء مراجعة أمنية لنموذج "ديب سيك – آر1". وقد درس الفريق ورقة بحثية نشرتها الشركة توضّح تفاصيل عملها، وتواصلوا مع مهندسي الشركة الناشئة، وأمطروهم بالأسئلة حول النموذج. (مع العلم أن قلّة آخرين تمكنوا من دفع هذه الشركة الصينية الغامضة إلى الرد على رسائل البريد الإلكتروني).

سرعان ما بدأ نحو 100 من موظفي "مايكروسوفت" يتناوبون على غرف المؤتمرات عبر "تيمز"، يختبرون أمان الشيفرة البرمجية الخاصة بـ"ديب سيك" ويتبادلون الملاحظات.

قالت آشا شارما، رئيسة منصة الذكاء الاصطناعي في الشركة، والتي قادت هذا الجهد: "لم ينَم أحد، أمضينا 48 ساعة في التدقيق بكل التفاصيل". وقد تبيّن أن "آر1" نموذج جديّ.

لكن بدل السعي لإقصاء هذا المنافس الجديد، قرّر ناديلا احتواءه. فأوعز إلى فريقه بتحميل نموذج "آر1" على منصة "مايكروسوفت" السحابية وطرحه للعملاء إلى جانب منتجات "أوبن إيه آي" و"مايكروسوفت" نفسها. واستذكر قوله لفريقه آنذاك "أتيحوه" على المنصة.

الخدمات السحابية

اليوم، لم يعد ولاء ناديلا محصوراً بمشاريع "أوبن إيه آي" التجريبية، بل هدفه الأساسي بيع أي منتج ذكاء اصطناعي يرغب به العملاء، عبر منصات "مايكروسوفت". هو الذي كان قد أشرف طوال ثلاث سنوات على أجزاء مختلفة من الخدمات السحابية التي تقدمها للشركة، والمعروفة باسم "أزور" (Azure)، قبل تعيينه رئيساً تنفيذياً في 2014. وتشكّل هذه الخدمات اليوم حجر الزاوية في استراتيجيته للذكاء الاصطناعي.

يمكن للعملاء الاختيار من بين أكثر من 1900 نموذج مختلف على منصة "أزور"، تشمل نماذج طوّرتها شركات مثل "ميتا" و"أوبن إيه آي"، وأخرى من شركات ناشئة مثل "كوهير" (Cohere) و"ميسترال" (Mistral) و "ستابيليتي إيه أي" (Stability AI) و"ديب سيك". (لا تتوفر نماذج مثل "جيميناي" من "جوجل" عبر "مايكروسوفت" لأسباب تتعلّق بالمنافسة).

هكذا، لا يهم إذا بلغت كلفة استخدام النموذج 10 دولارات عبر "أوبن إيه آي" أو 90 سنتاً عبر "ديب سيك"، ففي أي حالّ ستحقق "مايكروسوفت" الإيرادات من خدماتها السحابية والحماية السيبرانية وتخزين البيانات وغيرها من الخدمات المضافة.

اقرأ أيضاً: إيرادات وأرباح "مايكروسوفت" تفوق التوقعات بدعم من الخدمات السحابية

تكشف واقعة "ديب سيك" عن جانب آخر — وربما أكثر دلالة — في طريقة تفكير ناديلا. فالذكاء الاصطناعي يتحوّل سريعاً إلى سلعة، وهو ما يصبّ في مصلحة "مايكروسوفت". 

بالعودة إلى دافوس، بينما كان كلّ المجتمعين هناك منشغلين بمسألة استهلاك الذكاء الاصطناعي، كان ناديلا يستحضر تاريخ إنتاج الفحم. فلطالما شكلت "مفارقة جيفونز" واحدة من نظرياته الاقتصادية المفضّلة، وهي تفترض أن ازدياد كفاءة استخدام مورد ما وسهولة الوصول إليه، يؤديان في نهاية المطاف إلى تضاعف استهلاكه.

حدث ذلك مع الفحم خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ثمّ مع السفر الجوي، حين أسهم تراجع التكاليف التشغيلية وانخفاض أسعار التذاكر في ازدياد أعداد المسافرين الدائمين وتوسّع وجهات السفر وازدهار أعمال شركات الطيران. ويرى ناديلا أن سيناريو مشابه سيتكرّر مع الذكاء الاصطناعي.

دفعت هذه العقلية الاقتصادية "مايكروسوفت" إلى تطوير بنيتها الخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك نماذج صغيرة بقدرات مشابهة لتلك التي يتمتع بها نموذج "ديب سيك–آر1". وقد عملت الشركة أيضاً خلال العام الماضي على تدريب سلسلة من النماذج اللغوية الكبيرة تحت اسم "MAI-2"، وهي أحدث بدائل لنماذج "أوبن إيه آي" عملت الشركة على تطويرها بنفسها سرّاً.

تهدف الشركة من خلال ذلك لبناء نماذج ذكاء اصطناعي تتطلّب قدرة حوسبية أقل من تلك التي يحتاجها "تشات جي بي تي"، ما يتيح خفض كلفة تشغيل خدمة "مايكروسوفت" المرادفة له، أي "كوبايلوت" (Copilot). ورغم أن الشركة ستواصل في الوقت نفسه الاستفادة من أحدث تقنيات "أوبن إيه آي" المتقدّمة، إلا أن ناديلا مقتنع بأن "مايكروسوفت" قادرة على تقديم مستوى قريب من "تشات جي بي تي" بكلفة أقل بكثير.

علاقة معقدة مع "أوبن إيه أي"

سيضفي كلّ ذلك المزيد من التعقيد على الشراكة بين "مايكروسوفت" و"أوبن إيه آي". فالعلاقة الطيبة التي بدأت قبل ستّ سنوات، تحولت اليوم إلى صراع أشقاء. وقد شكّلت أزمة النفوذ التي عصفت بـ"أوبن إيه آي" في عام 2023 نقطة تحوّل مفصلية، بدأت معها "مايكروسوفت" في فرض هيمنتها بطرق متعددة. 

يُشكّل مشروع "MAI-2"، على سبيل المثال، وسيلة لـ"مايكروسوفت" كي تحمي نفسها من تبعات أي "كارثة" قد تلمّ بـ"أوبن إيه آي"، بحسب مصطفى سليمان الذي يقود جهود "مايكروسوفت" المتعلقة بـ "كوبايلوت" الموجّه للمستهلكين. وقال: "حتى الآن، كانت العلاقة مع (أوبن إيه آي) مذهلة جداً، لكننا شركة عمرها 50 عاماً، ويجب أن نكون في موقع مذهل في 2030 و2035 و2040".

اقرأ أيضاً: محادثات بين "مايكروسوفت" و"أوبن إيه آي" لتعديل شراكتهما

يردد سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لـ"أوبن إيه آي" أن شركته تطمح لتطوير ذكاء اصطناعي عام، باعتباره المرحلة النهائية في مسار تطوّر الذكاء الاصطناعي الحالي. أما ناديلا، فيسعى من خلال "MAI-2" إلى تحقيق أقصى درجات الجدوى من حيث التكاليف، حتى وإن لم تبلغ هذه النماذج مستوى الذكاء الذي تتمتع به أكثر نماذج "أوبن إيه آي" تقدماً.

حتى أن ناديلا يشعر أنه من أصحاب حقوق الملكية الفكرية الخاصة بـ"أوبن إيه آي". وقال "MAI ليس استنساخاً"، مضيفاً: "حين أمتلك عقداً مع (أوبن إيه آي) ينصّ فعلياً أنني أموّلها وأمتلك حقوق الملكية الفكرية، سيكون من الغباء أن أكرّر العمل نفسه مرتين. لذلك تجنّبنا هذه الحماقة".

إذا بدا ناديلا في موقع دفاعي، فذلك لأنه يواجه التحدي نفسه الذي يعيشه معظم الرؤساء التنفيذيين اليوم، لكن بشكل أكثر حدة.

فرغم الموارد الهائلة التي تملكها "مايكروسوفت"، يتعيّن عليه اتخاذ قرارات مصيرية حول الطريقة التي سيغيّر فيها الذكاء الاصطناعي أعمال الشركة. فيقع على عاتقه موازنة خيارات شديدة التعقيد، بين تبني تقنيات ناشئة وجريئة، وفي نفس الوقت حماية موظفيه وشركائه من أنظمة قد تحدث اضطرابات، وبين التمسّك بما أثبت جدواه في الماضي والاندفاع إلى المستقبل بدون رؤية واضحة.

حظي ناديلا حتى الآن بإشادة المساهمين بعدما قاد "مايكروسوفت" لتصبح الشركة الأعلى قيمة في العالم. لكن في حال أخفق في رهانه، قد يكون من أوائل من يطيح الذكاء الاصطناعي بوظائفهم. 

اقرأ أيضاً: إنفوغراف: "مايكروسوفت" تتسلم راية الشركات الأكثر قيمة من "أبل"

البحث عن تطبيقات جديدة

كان التحالف بين "مايكروسوفت" و"أوبن إيه آي" (أو بين ناديلا وألتمان) حجر أساس طفرة الذكاء الاصطناعي الحالية. فلكي يحقّق ألتمان وفريقه من المهندسين اللامعين طموحهم، كانوا بحاجة إلى تمويل ناديلا ومراكز بياناته.

اتضح لاحقاً أن استثمار ناديلا البالغ مليار دولار في "أوبن إيه آي" منتصف عام 2019 كان خطوة استشرافية، منحت "مايكروسوفت" اطلاعاً مبكراً وحصرياً على تكنولوجيا المختبر البحثي. وبعد عامين، أطلقت "مايكروسوفت" أداة "GitHub Copilot"، المساعد البرمجي الذي سرعان ما تحوّل إلى أداة لا غنى عنها لدى المبرمجين.

في عام 2022، قدّمت "أوبن إيه آي" عروضاً تجريبية لنموذج ثوري جديد أمام كبار التنفيذيين في "مايكروسوفت". وعلى مدى الأشهر التالية، بدأت فرق داخل الشركة في استكشاف طرق مختلفة لتكييف تكنولوجيا "أوبن إيه آي" بما يخدم احتياجات الموظف العصري في بيئة العمل.

من بين النماذج الواعدة آنذاك، أداة تُعرف باسم "التلخيص الذكي" صُممت لتوليد ملخّصات لاجتماعات "تيمز". لكن قبل أن تتمكّن "مايكروسوفت" من طرح أي من هذه الابتكارات، كانت "أوبن إيه آي" قد سبقتها بإطلاق واجهة محادثة تبدو بسيطة للوهلة الأولى، مبنية على محرّكها اللغوي، سرعان ما اجتاحت العالم. 

مع إطلاق "تشات جي بي تي" في نوفمبر 2022، وجدت "مايكروسوفت" نفسها إلى جانب بقية شركات التكنولوجيا، تحاول جاهدة للحاق بالركب. كانت الضربة تلك قاسية للشركة، إذ بدت وكأنها كانت تمتلك مكوّنات جهاز "الآيفون" الأول، لكنها لم تعرف كيف توظّفها.

اعتمد ناديلا بعدها نهجاً حازماً أكثر في توجيه مشاريع الذكاء الاصطناعي داخل الشركة، وبدأ بفرض جداول زمنية صارمة.

وبعد نحو شهر من إطلاق "تشات جي بي تي"، قدّم فريق برمجي عرضاً تجريبياً له استعرضوا خلاله بعض الوظائف المدعومة بتقنيات "أوبن إيه آي" والمدمجة في تطبيقات "أوفيس"، تتيح للمستخدم خيارات في "أوتلوك" لكتابة رد تلقائي على بريد إلكتروني، أو النقر على زر في "وورد" لتحويل أفكار رئيسية إلى مسوّدة أولية.

يتذكّر جاريد سباتارو، المسؤول عن تسويق تطبيقات العمل في "مايكروسوفت" تعليق ناديلا وقتها حين قال: "أشعر أننا نفوّت أمراً ما... هذه تبدو وكأنها مجرد مجموعة من الميزات".

ولادة "كوبايلوت"

بدل توزيع هذه الأدوات الجديدة داخل قوائم متفرقة، طلب ناديلا من الفرق العاملة على المشروع توحيد جميع التحسينات المستندة إلى "أوبن إيه آي" ضمن مساعد ذكي واحد، أُطلق عليه لاحقاً اسم "كوبايلوت"، تم تثبيته على جانب واجهة تطبيقات "مايكروسوفت".

لكن البعض تذمروا لاحقاً من عدم اتضاح الرؤية. إذ افتقرت أدوات المساعدة الذكية إلى التناسق في الأداء، ويعود ذلك جزئياً إلى ضعف التعاون بين الفرق والتردد في إدخال تغييرات جذرية على ما وصفه مدير سابق في "كوبايلوت" بـ"جواهر التاج"، أي "ويندوز" و"وورد" و"إكسل".

كان "كوبايلوت" في "باوربوينت" يعمل بطريقة مختلفة تماماً عمّا يفعل في "GitHub" و"تيمز". وقال أحد القادة السابقين في قسم التصميم لدى "مايكروسوفت" طلب عدم الكشف عن هويته، كما فعل عدد من الموظفين السابقين الذين تحدّثوا إلى "بيزنس ويك" تفادياً لتبعات مهنية محتملة: "بدا الأمر وكأن هناك 13 نسخة مختلفة من (كوبايلوت)". 

في مارس 2023، كشفت الشركة عن النسخة المخصصة للأعمال من "كوبايلوت"، المدمجة ضمن برامج "أوفيس" كجزء من اشتراك "مايكروسوفت 365".

في ذلك الوقت، كان "تشات جي بي تي" قد تجاوز 100 مليون مستخدم نشط، وطرحت "أوبن إيه آي" اشتراكاً شهرياً بقيمة 20 دولاراً مقابل استخدام أحدث نماذجها. أما الشركات التي أرادت أن تكون سباقة في استخدام "كوبايلوت"، فترتب عليها شراء 300 ترخيص على الأقل، بسعر 30 دولاراً شهرياً لكل ترخيص، يُضاف إلى اشتراكها القائم في "مايكروسوفت 365".

كثير من العملاء الذين جرّبوا "كوبايلوت" وجدوه دون التوقعات. ثمّ بدأ يتكرّر نمط مقلق، إذ كان المستخدمون يفضّلون التوجّه إلى "تشات جي بي تي" لطرح أسئلتهم، ثم نسخ الإجابات ولصقها في "وورد". (باستثناء ميزة "التلخيص الذكي" في "تيمز"، التي حظيت بإعجاب واسع عند إطلاقها في مايو 2023، وهي ميزة لم تكن متوفرة في "تشات جي بي تي").

أحد الأسباب التي عرقلت تقدم "مايكروسوفت" كان تركيزها المفرط على أمن البرمجيات. فالتركيز على متطلبات الامتثال وحماية البيانات والمراجعات القانونية، أدّى إلى تأخّر تقنياتها مقارنة بالمنافسين، لكن ذلك تحوّل في نهاية المطاف إلى نقطة قوة في تسويق منتجاتها للشركات. قال جيف تيبر، رئيس منصة "تيمز": "كان من الرائع أن نُخاطب العملاء بالقول: ’تحبّون تشات جي بي تي؟ هذا شبيه به، لكن بتجربة استخدام أقوى وخصاص أمان أفضل".

ومع ذلك، كان واضحاً أن ثمة عامل آخر يقيّد "مايكروسوفت" ويمنعها من اتخاذ خطوات أجرأ مع منتجاتها. يصف مدير سابق في "كوبايلوت" الأمر بأنه أشبه باضطراب ما بعد الصدمة، نتيجة إخفاقات محرجة تعود إلى تجربة "كليبي" (Clippy)، المساعد الافتراضي على شكل مشبك ورق متحرّك، والذي تحوّل لاحقاً إلى مادة دائمة للسخرية.

قال المدير السابق إن "تشات جي بي تي" كان قادراً على أداء عدد أكبر من المهام، دون أن تحدّه قيود بيروقراطية كثيرة، وقد أدرك مهندسو "مايكروسوفت" ذلك تماماً. حتى أنه يقدر أن ثلاثة أرباع الموظفين البالغ عددهم المئات في الشركة، كانوا يدفعون من جيبهم الخاص لاستخدام "تشات جي بي تي"، لأن "مايكروسوفت" لم تكن تغطي تكاليف الاشتراك به. (يقول تيبر إن من الطبيعي أن يختبر الموظفون خدمات الشركات المنافسة بهدف فهم السوق بشكل أفضل).

أزمة سام ألتمان

حتى عملاء "مايكروسوفت" أنفسهم كانوا يتجهون إلى "تشات جي بي تي". فقد وجدت شركة "موديرنا" (Moderna) أن إتاحة "أوبن إيه آي" لخيار تخصيص "تشات جي بي تي" يجعله مرناً أكثر من "كوبايلوت"، بحسب براد ميلر، المدير التنفيذي السابق لتقنية المعلومات في شركة التكنولوجيا الحيوية. وقال: "كانت (مايكروسوفت) تردد لنا أن الأداة مدمجة في أوفيس، استخدموها هناك، بينما كنّا نرى الكثير من الأمور الأخرى التي نريد القيام بها".

في ذلك الخريف، بينما كانت "مايكروسوفت" تستعد لإطلاق "كوبايلوت" على نطاق واسع، كان أكثر من 18 ألف عميل تجاري يستخدمون نماذج "أوبن إيه آي" عبر منصة "أزور"، في حين لم يتجاوز مشتركي "كوبايلوت" من الشركات بضع مئات.

ورغم ذلك، استمرّت "مايكروسوفت" في جني أرباح طائلة من تأجير الوصول إلى نماذج "أوبن إيه آي" ومن اتفاق تقاسم الإيرادات التي تدرّها اشتراكات "تشات جي بي تي"، لكنها لم تكن تقارن بالعائدات التي كانت لتحصل عليها لو أن العملاء دفعوا مقابل استخدام "كوبايلوت".

سعى ناديلا إلى زيادة زخم خدمات الذكاء الاصطناعي التي تقدمها "مايكروسوفت" خلال مؤتمر المطورين السنوي في نوفمبر 2023، مستعرضاً أداة لتخصيص "كوبايلوت"، بطريقة شبيهة بما كانت الشركات تفعله أصلاً مع "تشات جي بي تي".

لكن سرعان ما طغى على تلك الجهود خبر إقالة مجلس إدارة "أوبن إيه آي" لسام ألتمان من منصبه كرئيس تنفيذي، الذي تزامن مع اليوم الأخير من المؤتمر. والمفارقة أن ناديلا، الذي كان قد زاد التزامه المالي تجاه "أوبن إيه آي" في وقت سابق ذلك العام بـ10 مليارات دولار، لم يعلم بالإقالة إلا بعد وقوعها.

تُشير إدارة "مايكروسوفت" اليوم إلى تلك الأيام الأربعة العاصفة التي شهدت إقالة سام ألتمان، وقبوله منصباً تنفيذياً في "مايكروسوفت"، ثم استعادته السيطرة على "أوبن إيه آي" من مجلس إدارتها، بعبارات غير مباشرة مثل "ذلك الحادث" أو "المسألة التي وقعت في (أوبن إيه آي) في نوفمبر". لكن تلك الحادثة تسببت في الواقع بضرر دائم في العلاقة بين الشركتين.

فوفقاً لشخص مطّلع على المداولات، كان ناديلا يدرس قبل ذلك مباشرة، ضخ تمويل إضافي بعشرات المليارات من الدولارات لإبقاء "أوبن إيه آي" في صدارة السباق أمام "أمازون" و"جوجل". لكن ذلك الطرح طُوي بالكامل، فقد توصّل ناديلا إلى قناعة بأن "مايكروسوفت" غامرت بما يكفي على شركة ناشئة تدار بطريقة غير ناضجة.

في غضون ذاك، كان ناديلا بدأ يوطّد علاقته بمصطفى سليمان، أحد الأسماء البارزة في عالم الذكاء الاصطناعي، والمشارك في تأسيس المختبر الذي أصبح لاحقاً "جوجل ديب مايند"، وكان آنذاك يشرف على شركة ناشئة تُدعى "إنفلكشن إيه آي" (Inflection AI Inc).

طوّرت "إنفلكشن" روبوت دردشة يركّز على الذكاء العاطفي أكثر من العقلي، وسوقت لمنتجها كمساعد رقمي يشبه "الصديق واسع الاطلاع".

اقرأ أيضاً: مايكروسوفت تدفع 650 مليون دولار لـ"إنفلكشن" مقابل برامجها وموظفيها

ورغم أن هذا روبوت المحادثة هذا لم يقترب من شهرة "تشات جي بي تي"، فإن ناديلا أُعجب بردوده الذكية والمرحة. وفي مارس 2024، جاء دوره ليفاجئ "أوبن إيه آي". إذ دفعت "مايكروسوفت" 650 مليون دولار لترخيص برمجيات "إنفلكشن" وضمّ معظم فريق عملها. وقد أبلغت "مايكروسوفت" "أوبن إيه آي" بالصفقة قبل يوم واحد فقط من إعلانها.

انضمام مصطفى سليمان

كلّف ناديلا مصطفى سليمان، البريطاني البالغ من العمر 40 عاماً، بقيادة وحدة الذكاء الاصطناعي الموجّهة للمستهلكين في "مايكروسوفت"، والتي تضم محرك البحث "بينغ" وتطبيق "كوبايلوت" ومتصفّح "إيدج" وبوابة "MSN" الإلكترونية.

لكن هذه الحزمة كانت ضعيفة، بخاصة في أوساط الشباب، فهم ليسوا الجمهور الاعتيادي لموقع "MSN"، إذ نشأ أبناء الجيل "زد" على استخدام أجهزة "آيفون" و"ماكبوك" و"جيميل" و"جوجل دوكس" و"إنستغرام" و"تيك توك"، واليوم "تشات جي بي تي".

قال سليمان: "شرح لي ساتيا الأمر بقوله إننا نعيش تحوّلاً من جيل إلى جيل. فشباب اليوم الذين سيصبحون خلال العقد المقبل رؤساء تنفيذيين وقادة في قطاعاتهم، وسيتخذون قرارات الشراء في المؤسسات، ليست لديهم تجربة فعلية مع (مايكروسوفت). وهذا تحدٍّ بنيوي كبير".

شرع فريق سليمان بالعمل انطلاقاً من مكاتبه في لندن وماونتن فيو بولاية كاليفورنيا على تطوير نسخة من "كوبايلوت" مخصّصة للاستخدام خارج البيئة المكتبية. وكما فعلوا في "إنفليكشن"، دربوا "كوبايلوت" على التعاطف والفكاهة واللطف.

لكن هل يرغب الناس فعلاً في بناء علاقة عاطفية مع الشركة التي تصنع "إكسل"؟ هذا ما يعتقد سليمان، أو على الأقل، يرى أن المستخدم سيكون أقل ميلاً للتخلّي عن "كوبايلوت" إن شعر نحوه بما يشبه الودّ أو العلاقة مع صديق أو معالج.

لكن سليمان واجه تحدياً أكبر. فقد كان عمله يتمحور حول تعديل تقنيات "أوبن إيه آي"، لكنه يقول إن "مايكروسوفت" لم تكن تحصل على النماذج الجديدة بالسرعة الكافية التي يحق لها بها. إذ كانت "أوبن إيه آي" تطرح نماذجها لمستخدمي "تشات جي بي تي" بأسلوب صاخب، قبل أن يتاح له الوقت الكافي لدمجها في برمجيات "مايكروسوفت".

يُعرف سليمان بطبعه الحاد رغم تقديره للذكاء العاطفي، فكان أحياناً يبدي فظاظة خلال الاجتماعات الافتراضية. وسرعان ما احتدمت التوترات بين الجانبين، فيما ضغط على "أوبن إيه آي" لإتاحة المزيد من النماذج لـ"مايكروسوفت" في وقت أبكر.

قال براد لايتكاب، مدير العمليات في "أوبن إيه آي"، إن مشاركة التكنولوجيا "تحدّ تشغيلي بالغ التعقيد"، مشيراً إلى أن "أوبن إيه آي" تُعدّ من أكبر عملاء "مايكروسوفت" على منصة "أزور"، ويتوقع أن تبقى كذلك حتى بعد انتهاء الاتفاق القائم بين الشركتين في عام 2030.

أما سليمان، فقال إنه لا يستغرب أن تنسى الشركة الناشئة، التي تنمو بوتيرة سريعة، بعض التزاماتها تجاه "مايكروسوفت" من حين إلى آخر. وأضاف "أتعاطف مع ذلك".

استكشاف ميزات "كوبايلوت"

"التعاطف" مسألة مهمة لسليمان. ففي خلال أحد العروض التوضيحية لبعض المزايا التي يعمل على تطويرها في "كوبايلوت"، فعّل المساعد الصوتي في التطبيق على جهاز "آيفون"، وأخبره بأنه يمرّ بمرحلة صعبة في حياته ويعاني من مشاعر القلق. فجاءه ردّ بصوت ذكوري هادئ بلكنة بريطانية يقول: "الظروف القاسية قد تحجب وضوح التفكير"، ثمّ سأله بلطف عمّا إذا كان يرغب في الحديث عن سبب تلك المشاعر.

يقول سليمان إن "كوبايلوت" مبرمج لاستشعار الحدود التي يضعها المستخدم ليبقى مرتاحاً في التفاعل، وتشخيص حالته بدقة قبل اقتراح أي حلول. وعلّق بفخر "هل لاحظتم التوقفات؟ هل لاحظتم انخفاض نبرة الصوت؟ تنفيذ ذلك بالغ الصعوبة".

في صباح شتوي بارد من فبراير، كان أكثر من عشرة مدراء من شركة "إستي لودر" (Estée Lauder Cos.) يخضعون لدورة تدريبية مكثفة على استخدام "كوبايلوت" في مقر "مايكروسوفت" في ريدموند بولاية واشنطن.

كانت شركة مستحضرات التجميل تبحث في سبل توظيف الذكاء الاصطناعي من "مايكروسوفت" لدعم عملية إعادة هيكلة تهدف إلى تحسين إدارة المكوّنات وخطوط الإنتاج وسلاسل التوريد.

ورغم أن "إستي لودر" واحدة من عملاء "كوبايلوت" منذ فترة طويلة وتمتلك 15 ألف ترخيص، إلا أن الموظفين كانوا لا يزالون يستكشفون بعض إمكانات استخدامه. مثلاً، عندما أبدى عدد منهم اهتماماً بأداة تساعد تلقائياً في إدارة تفاصيل التوظيف، أوضح لهم أحد ممثلي المبيعات في "مايكروسوفت" أن هذه الميزة كانت متاحة لهم أصلاً منذ مدة.

تعلّق "مايكروسوفت" أهمية كبرى على هذه اللحظات التي يدرك فيها العميل أن "كوبايلوت" قادر على تقديم فائدة فعلية.

وقال روبرتو كانيفاري، نائب الرئيس التنفيذي في "إستي لودر" والمسؤول عن سلاسل التوريد العالمية، إنه اختبر ذلك بنفسه قبل بضعة أسابيع. فبعد أن أمضى عطلة نهاية الأسبوع في قراءة تقرير تشغيلي من 30 صفحة وتدوين ملاحظاته عليه، طلب من "كوبايلوت" تلخيصاً له بدافع الفضول. فجاء الملخص في صفحة واحدة، وكان قريباً جداً مما أعدّه بنفسه. وأضاف مازحاً: "أشعرني ذلك أنني أصبحت عجوزاً ولست ذكياً بما يكفي".

التسويق لـ"كوبايلوت" في تسهيل العمل

بينما كان سليمان يعمل على تطوير نسخة أكثر تعاطفاً من "كوبايلوت" موجهة للمستهلكين خلال العام الماضي، ركّز زملاؤه في قسم الشركات على أتمتة المهام الروتينية والمملّة، مثل مطابقة الفواتير البنكية أو مراجعة مخزون المستودعات. وقد وجدت "مايكروسوفت" أن موظفي المكاتب ينبهرون أكثر عندما يتولّى "كوبايلوت" عنهم الجوانب الرتيبة من العمل.

فبدل الحديث النظري عن قدرة الذكاء الاصطناعي على تغيير العالم، بات مندوبو مبيعات "مايكروسوفت" يروّجون لـ"كوبايلوت" انطلاقاً من قدرته مثلاً على إضافة شريحة في عرض "باوربوينت" توضح الفروقات في الميزانية.

يبدو أن هذا التوجّه يلقى صدى. ففي الإفصاح المالي ربع السنوي الذي صدر في يناير، أعلنت "مايكروسوفت" أنها في طريقها لتحقيق أكثر من 13 مليار دولار سنوياً بفضل إيرادات الذكاء الاصطناعي.

وتشمل مصادر هذه الإيرادات اشتراكات "كوبايلوت"، ورسوم استخدام النماذج عبر منصة "أزور"، إضافة إلى حصة من عائدات اشتراكات "تشات جي بي تي" بموجب اتفاق تقاسم الإيرادات مع "أوبن إيه آي".

إلى ذلك، سجل "GitHub Copilot" عدد مستخدمين يتجاوز 15 مليوناً في مارس، بينما باتت النسخة المخصّصة للشركات من "كوبايلوت" تُستخدم من قبل مئات الآلاف من المؤسسات، وتضاعفت تفاعلاتهم ثلاث مرات خلال العام الماضي.

وجدت شركة "نستله" (Nestlé SA) أن "كوبايلوت" مفيد جداً في مقارنة العقود وترجمة المحتوى لفرق خدمة العملاء، وفقاً لكريستوفر رايت، المدير التنفيذي لتقنية المعلومات في مجموعة الأغذية السويسرية.

وتدفع "نستله" اشتراكات عن أكثر من 25 ألف رخصة من "مايكروسوفت 365" تتضمن "كوبايلوت"، ويقدّر رايت أن توفير عشر دقائق فقط في اليوم يكفي لتغطية كلفة الاشتراك لكلّ موظف.

كما بدأت الشركة بدفع رسوم إضافية لاستخدام "كوبايلوت ستوديو"، وهو منتج يتيح تصميم وكلاء ذكاء اصطناعي متخصصين في مجالات محددة. رأى رايت أن الأداة رخيصة جداً مقارنة بما تحقّقه من فائدة، واستدرك مازحاً "لا تقولوا ذلك لـ(مايكروسوفت)". 

اعتماد على نماذج "أوبن إيه آي"

مع ذلك، لا تزال العديد من قدرات "كوبايلوت" في مجال الذكاء الاصطناعي تعتمد على نماذج طوّرتها "أوبن إيه آي"، وهو أمر لم تعد "مايكروسوفت" ترغب بالإضاءة عليه كثيراً هذه الأيام. 

يستخدم "كوبايلوت" تلقائياً النموذج الذي يتناسب أكثر مع الأمر الذي يدخّله المستخدم، سواء كان هذا النموذج من "مايكروسوفت" أو "أوبن إيه آي"، بدل الطلب من المستخدم اختيار النموذج.

في المقابل، يمنح "تشات جي بي تي" المستخدمين القدرة على الاختيار من قائمة عشوائية إلى حد ما، تضم أسماء مثل "4o"، و"4.5"، و"o3"، و"o4-mini"، و"o4-mini-high" وهي تسميات قد تكون مهمة للآلات أكثر منها للبشر.

جاريد سباتارو، مسؤول التسويق في "مايكروسوفت"، سخر من هذا التصميم، قائلاً: "الواجهة باتت مكتظة للغاية". (وكان سام ألتمان قد أشار إلى أن "أوبن إيه آي" تعمل على تبسيط عروضها).

قال جدسون ألتهوف، رئيس المبيعات في "مايكروسوفت"، إن قلّة من مشتري السيارات يهتمون بنوع المحرك طالما أن السيارة تؤدي الغرض وتنقلهم من النقطة "أ" إلى النقطة "ب". وتابع متسائلاً "هل هو محرّك تيربو بأربع أسطوانات؟ أم بثمانٍ؟ ما يهمّهم في النهاية هو كلفة السيارة".

فإذا كان "تشات جي بي تي" يُشبه سيارة "رينج روفر" فاخرة، فإن "MAI-2" أقرب إلى "تويوتا بريوس"، فهو ليس الأسرع أو الأقوى، لكنه أكثر كفاءة للقيادة اليومية.

تعمل "مايكروسوفت" أيضاً على تدريب نماذج أصغر حجماً وأكثر كفاءة، تركّز على مهام محددة مثل الرياضيات أو التعرّف على الصوت، ضمن حزمة تُعرف باسم "Phi". وقد تتيح هذه الجهود في المستقبل تنفيذ مهام مثل تلخيص مستندات طويلة أو معالجة أوامر صوتية عبر "كوبايلوت" باستخدام حاسوب محمول عادي، من دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت.

تعزيز الذكاء الاصطناعي داخل "مايكروسوفت"

يرى سليمان أن المفتاح لتحقيق هذا التوازن يكمن في مخطط "باريتو" الحسابي الذي يعرّفه موقع "ويكيبيديا" بأنه "مجموعة الحلول المثلى وفق معيار باريتو".

يستند هذا المفهوم إلى نظرية في الكفاءة وضعها اقتصادي إيطالي في القرن التاسع عشر، ويشير إلى النقطة المثالية التي يتم عندها تحقيق توازن دقيق بين مجموعة من الخصائص المرغوبة. غالباً ما يتردّد هذا المصطلح في اجتماعات مهندسي البرمجيات عند محاولتهم إيجاد معادلة تجمع بين سرعة النموذج وجودته من جهة، وكلفة تشغيله من جهة أخرى.

تفاخر الرئيس التنفيذي لـ"جوجل"، سوندار بيتشاي، خلال مكالمة أرباح أخيرة، بتقدّم الشركة من حيث مخطط "باريتو"، ما يمكّنها من تقديم مزيد من خصائص الذكاء الاصطناعي على هواتف "أندرويد"، ومحرك البحث الخاص بها، و"يوتيوب"، من دون تكبّد تكاليف باهظة. أما "أبل"، فقد أشارت هي الأخرى إلى مفهوم "باريتو" في أبحاثها المتعلقة بتطوير نماذج لغوية قابلة للتشغيل مباشرة على أجهزة "آيفون". 

يطرح ناديلا جملة من الأسباب التي تدفع "مايكروسوفت" إلى تعزيز وحدات الذكاء الاصطناعي داخل الشركة، رغم استثماراتها الهائلة في "أوبن إيه آي". ويشبّه الأمر بـ"التمرين في صالة الرياضة" لتقوية قدرات الشركة في تدريب النماذج كي لا تبقى معتمدة بالكامل على "أوبن إيه آي". لكنه أشار إلى أنه لا يعتزم بالضرورة تفضيل تقنيات مختبر على آخر. ففي بعض الحالات، ستكون الأولوية للنماذج الأرخص التي يطوّرها سليمان، وفي حالات أخرى، للنماذج المتفوقة التي يقدّمها ألتمان.

اعتماد الشركات على "مايكروسوفت"

لم تكن المسارعة لاحتواء "ديب سيك" في يناير حالة عابرة. ففي مارس، أضافت "مايكروسوفت" نموذجاً آخر من "ديب سيك" إلى مكتبة نماذجها السحابية، وأتاحته مقابل نصف تكلفة النموذج المقابل من "أوبن إيه آي".

ومن المحتمل أن يستخدم "كوبايلوت" مستقبلاً "ديب سيك" أو أي نموذج آخر متاح ضمن سحابة "مايكروسوفت" لمعالجة بعض الأوامر، وهو ما بدأت فرق المنتجات الموجّهة للمستهلكين والمؤسسات باختباره فعلاً.

هذه الخطوات لا تعكس بالضرورة تقليصاً لرهان ناديلا على "أوبن إيه آي"، بقدر ما توحي بأنه يوزع رهاناته في جميع الاتجاهات.

بالطبع، رهانات ناديلا لا تربح في كلّ مرّة. ففي اليوم الذي أزاح فيه "ديب سيك" تطبيق "تشات جي بي تي" عن صدارة متجر "آبل" في الولايات المتحدة خلال يناير، لم يكن "كوبايلوت" حتى ضمن قائمة التطبيقات الـ200 الأولى، بحسب شركة الأبحاث "سنسور تاور" (Sensor Tower). (ورغم أن نماذج "ديب سيك" مفتوحة المصدر متوفرة عبر منصة "أزور"، فإن الشركة الناشئة تُشغّل تطبيق محادثة خاصاً بها على الهواتف المحمولة، لا يعود بالفائدة على "مايكروسوفت").

حتى التطبيقات التي أتت متأخرة، مثل "جيميناي" من "جوجل" و"غروك" الذي أطلقه إيلون ماسك، تتقدم على "كوبايلوت".

إلا أن ناديلا ذكّر بأن "مايكروسوفت" لم تكن لاعباً بارزاً في مجال الاجتماعات الافتراضية في البدايات. وقال: "كان الجميع يردّدون اسم "زوم" لكننا انتصرنا في هذا المجال". (وقد رفض متحدّث باسم "زوم" التعليق).

 تبدو منتجات "مايكروسوفت" في مجال الذكاء الاصطناعي متفرّقة، وليس بطريقة إيجابية، بحسب إيثان مولّيك، الأستاذ في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، المتخصص في الذكاء الاصطناعي التوليدي ومؤلف كتاب "Co-Intelligence: Living and Working With AI".

ومع ذلك، يرى أن لدى "مايكروسوفت" ميزة حاسمة تفتقر إليها الشركات الأخرى. وقال: "ميزتها أنها تمتلك أمكنة العمل... فالشركات الأميركية تعمل على (مايكروسوفت)". 

اتهمت شركات منافسة "مايكروسوفت" بانتهاج ممارسات احتكارية في إطار تحالفها مع "أوبن إيه آي". وفي هذا الإطار، تواصل لجنة التجارة الفيدرالية في إدارة دونالد ترمب تحقيقاً واسع النطاق في هذا الشأن، كانت قد أطلقته إدارة جو بايدن في وقت سابق. وتؤكد "مايكروسوفت" أنها تتعاون مع اللجنة.

اقرأ أيضاً: تحقيق أميركي مع "مايكروسوفت" حول مكافحة الاحتكار

تتضافر العديد من الحوافز داخل "مايكروسوفت" لدفع "كوبايلوت" إلى الواجهة. في 19 مايو، بدأت الشركة بعقد أكبر مؤتمر سنوي للمطوّرين، و"كوبايلوت" نجم الحدث.

كما تتباهى "مايكروسوفت" بأن نحو 70% من شركات "فورتشن 500" تستخدم "كوبايلوت"، وأن شركات كبرى مثل "بلاك روك" و"برايس ووترهاوس كوبرز" (PricewaterhouseCoopers) وغيرها، وقّعت عقوداً ضخمة للحصول على رخص استخدام الذكاء الاصطناعي.

الذكاء الاصطناعي التحدي الأكبر

قال أرمين فوفورسكي، المهندس المسؤول عن حلول الذكاء الاصطناعي في مصرف "رايفايزن إنترناشونال" (Raiffeisen Bank International ) في النمسا، إن فريق مبيعات "مايكروسوفت" لا يكلّ عن الترويج لـ"كوبايلوت" في أوساط موظفيه.

وأشار إلى أن موظفي المصرف يحبّذون استخدام "كوبايلوت" ضمن "تيمز" لتلخيص الاجتماعات، لكن الغالبية، أي أكثر من 25 ألف موظف، يعتمدون على نسخة مخصّصة من "تشات جي بي تي" مصمّمة للشركة. وقد طوّر البنك هذه النسخة باستخدام أدوات الحوسبة السحابية من "مايكروسوفت"، مراعاة لمتطلّبات الامتثال.

قال فوفورسكي "ربما لا تقدّم كل شيء من البداية، أو أحياناً قد تكون بطيئة من وجهة نظري، لكن في نهاية المطاف، (مايكروسوفت) تعرف تماماً كيف تدمج تكنولوجيا محددة ضمن بيئتنا التشغيلية".

يمتد تأثير "كوبايلوت" إلى حياة ناديلا خارج المكتب أيضاً. فهو من محبّي البودكاست، لكن بدل الاستماع إليها، يحمّل النصوص المكتوبة للحلقات على تطبيق "كوبايلوت" باستخدام جهازه الـ"آيفون"، ليناقش مع المساعد الصوتي محتوى الحلقة أثناء تنقّله بالسيارة إلى مقر الشركة في ريدموند.

أما في المكتب، فيعتمد على "كوبايلوت" للحصول على ملخّصات للرسائل التي تصله عبر "أوتلوك" و"تيمز"، ويستخدم ما لا يقلّ عن عشرة وكلاء مخصّصين أنشأهم باستخدام "كوبايلوت ستوديو". وهو يعتبرهم بمثابة "رؤساء أركان" رقميين، يوكِل إليهم مهام التحضير للاجتماعات والبحوث، وغيرها من المسؤوليات.

مزح ناديلا قائلاً "أنا مجرد كاتب بريد إلكتروني"، مشيراً إلى أن "كوبايلوت" لحسن الحظ بارع جداً في تصنيف رسائله وفرزها.

نشأ ساتيا ناديلا في مدينة حيدر أباد الهندية، وهو نجل اقتصادي ماركسي. كان في السابعة من عمره عندما أسّس بيل غيتس وبول ألين شركة "مايكروسوفت" عام 1975. وقد أمضى أكثر من نصف حياته داخل الشركة.

خلال مسيرته، شهد ناديلا ولادة شبكة الإنترنت، وظهور متصفّح "إنترنت إكسبلورر"، وانفجار فقاعة الإنترنت، والدعوى القضائية الشهيرة التي رفعتها الحكومة الأميركية ضد "مايكروسوفت" على خلفية مكافحة الاحتكار، إلى جانب الخسائر الفادحة التي منيت بها لاحقاً الشركة لمصلحة كلّ من "جوجل" في مجال البحث، و"أبل" في سوق الهواتف الذكية.

لكن الذكاء الاصطناعي قد يكون التحدّي الأكبر من بين كل تلك المحطات. ففي فعالية نُظّمت في أبريل احتفالاً بالذكرى الخمسين لتأسيس الشركة، قال بيل غيتس متهكماً إن "كوبايلوت" قد يتولّى منصب الرئيس التنفيذي يوماً ما.

البنية التحتية للذكاء الاصطناعي

في الوقت الراهن، لا يزال ناديلا يسعى لإثبات جدارته. وبحسب تشارلز لامانا، نائب الرئيس التنفيذي المسؤول عن "كوبايلوت ستوديو" وعدد من المنتجات الأخرى، حاول ناديلا تعبئة الفريق من خلال دعوته إلى وضع النجاحات السابقة جانباً، والاستعداد للتخلّي عمّا أثبت فاعليته في الماضي.

يستعيد لامانا ما قاله ناديلا لهم: "السنوات الخمس التي قضيناها في البناء؟ لا تهمّ. لم تعد تساوي شيئًا الآن...ارموا كلّ شيء خلفكم". (كان من بين ما رمته الشركة خلفها تطبيق "سكايب"، بعدما أقدم ناديلا على إيقافه، رغم أن "مايكروسوفت" كانت قد استحوذت عليه مقابل 8.5 مليار دولار، ليحلّ "تيمز" مكانه لاحقاً).

اقرأ أيضاً: وداعاً "سكايب".. خدمة الاتصالات تنهزم رسمياً أمام زووم وتيمز

في ظلّ الوعود، أو ربما التهديدات التي يحملها الذكاء الاصطناعي بإحداث تغيير وجودي، تُطرح أسئلة أساسية حول الرابح والخاسر من هذا التحوّل التكنولوجي المقبل.

غالباً ما يبدو ناديلا في تصريحاته العلنية وكأنه خبير اقتصاد كلي، إذ يقارن بين اللحظة الحالية في مسار الذكاء الاصطناعي والثورة الصناعية، ويتحدّث عن تقارب الشمال والجنوب العالمي، مستشهداً باقتصاديين ومنظرين في مجال اليد العاملة مثل ديفيد أوتور وفريدريش هايك وهربرت سايمون.

كما أسهمت "مفارقة جيفونز" التي صاغها وليام ستانلي جيفونز في كتاب عن إنتاج الفحم في بريطانيا عام 1865، في صنع تصور ناديلا لمكانة "مايكروسوفت" في ثورة الذكاء الاصطناعي.

فقد أظهر جيفونز أن ابتكار محرّك بخاري أكثر كفاءة في استهلاك الوقود جعل الفحم مصدر طاقة أكثر جاذبية، ما أدى إلى زيادة استهلاكه بدلاً من تقليله.

ولهذا لا يبدو ناديلا قلقاً من الآراء التي ترى في صعود "ديب سيك" تقويضاً لاستثماراته في "أوبن إيه آي" أو في التوسّع الكبير لمراكز بيانات "مايكروسوفت". فبرأيه، كلما أصبح الذكاء الاصطناعي أكثر كفاءة، ازدادت الحاجة إلى خدماته وإلى البنية التحتية لتشغيله.

تهديد للوظائف

لكن ذلك لا يعني أن موجة الإنفاق المفرط على تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، وعلى وحدات معالجة الرسومات من "إنفيديا" ستمرّ من دون حساب. تتعاون "أوبن إيه آي" مع "أوراكل" و"سوفت بنك" في مشروع عملاق لبناء مراكز بيانات يُعرف باسم "ستارغيت" (Stargate Project) ويتضمّن إنفاق 500 مليار دولار خلال السنوات الأربع المقبلة.

لكن ناديلا، فضّل عدم المشاركة في التمويل، نظراً لاستثماره عشرات المليارات سنوياً في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي الخاصة بـ"مايكروسوفت". (قال براد لايتكاب، مدير العمليات في "أوبن إيه آي": "لا ألوم أحداً، وخصوصاً رئيس شركة مدرجة في البورصة يدرك حدود ما يمكن أن تتحمله شركته").

وفي الوقت نفسه، بدأت "مايكروسوفت" تتراجع عن بعض مشاريع مراكز البيانات الخاصة بها حول العالم، في إقرار ضمني، كما تصفه ليلا تريتيكوف، النائبة السابقة لرئيس شؤون التكنولوجيا في الشركة، بأن الاستمرار في ضخ الأموال "في ما يُعتبر في واقع الحال أصولاً عقارية، لم يعد منطقياً".

في المقابل، قد تكون تداعيات لحظة الحساب هذه أكبر على مستوى المجتمع ككل. فـ"مايكروسوفت" كانت شديدة الحذر في حديثها حول الذكاء الاصطناعي، بحسب شخص مطّلع على استراتيجيتها التسويقية فضّل عدم الكشف عن هويته، فـ"كوبايلوت" صُمّم لمساعدة المستخدمين على إنجاز المهام، لا لأتمتة الوظائف.

لكن مقابلات مع عملاء الشركة وفرق مبيعاتها تكشف واقعاً مغايراً. فقد بدأ الذكاء الاصطناعي فعلياً في إزاحة بعض المتعاقدين والمبرمجين المستقلين والمتدربين والمحلّلين المتمرنين خلال الصيف.

عبّر مصطفى سليمان عن المخاطر بوضوح أكبر في كتابه "The Coming Wave"، الصادر قبل انضمامه إلى "مايكروسوفت"، حيث كتب: "هذه الأدوات ستُعزّز الذكاء البشري مؤقتاً، وستجعلنا أكثر كفاءة وذكاء لبعض الوقت، وستحرّر قدراً هائلاً من النمو الاقتصادي، لكنها في جوهرها تحلّ مكان البشر في العمل". 

ودعا سليمان إلى رقابة تنظيمية وتدخّلات حكومية مثل فرض ضرائب جديدة على أنظمة الأتمتة، وإقرار دخل أساسي شامل لتجنّب انهيار اقتصادي واجتماعي.

ناديلا متفائل

إلا أن ناديلا يبدو أكثر تفاؤلاً من نائبه الجديد. ففي مقابلة داخل غرفة الاجتماعات رقم 34-3563 في مقر "مايكروسوفت"، جلس إلى جانب رئيسة موظفيه "البشرية" ليؤكد أن مساعديه من "كوبايلوت" لن يحلّوا مكانها.

وفيما راحت تدوّن الملاحظات على جهازها اللوحي بصمت، أقرّ ناديلا بأن الذكاء الاصطناعي سيتسبب بـ "إلغاء قاس للوظائف وتحوّلات في سوق العمل"، حتى داخل "مايكروسوفت" نفسها.

(قال ألتهوف، رئيس المبيعات في "مايكروسوفت"، إن ناديلا يضغط على فريقه للبحث عن سبل لاستخدام الذكاء الاصطناعي في زيادة الإيرادات من العمليات، بدلاً من زيادة عدد الموظفين. في غضون ذلك، أعلنت "مايكروسوفت" في 13 مايو أنها ستسرّح 6,000 موظف، أي نحو 3% من قوتها العاملة).

لكن ناديلا يرى أن الذكاء الاصطناعي قد يحقق في نهاية المطاف فوائد مجتمعية تفوق ما أنجزته الثورة الصناعية. وقال: "حين تحقق وفرة، يصبح السؤال كيف تستثمر هذه الوفرة لتحقق المزيد من الفائض".

أعاد ناديلا التأكيد أن كل ذلك في جوهره مسألة اقتصادية. فبرأيه، إذا أنفقت "مايكروسوفت" مئات المليارات من الدولارات على مشاريع الذكاء الاصطناعي، فإنها ستولّد على الأرجح تريليونات من الدولارات من النشاط الاقتصادي. فمزيد من مراكز البيانات يعني مزيداً من أعمال البناء واستهلاك الطاقة والمعدّات الصناعية، وغير ذلك.

كما أن اتساع استخدام الذكاء الاصطناعي يفتح الباب أمام ابتكار أنواع جديدة من الأعمال، خاصة مع قدرته على ردم فجوة المهارات بين الموظف المبتدئ والمهندس المتخصص والمدير التنفيذي.

قال ناديلا: "قد نرى شركة ناشئة بمئة مؤسس"، أو إذا تطوّر الذكاء الاصطناعي بما فيه الكفاية، مئة شركة ناشئة لمؤسس واحد.

يرى ناديلا أن نشوء وظائف عصر الذكاء الاصطناعي سيأخذ وقتاً، ثمّ ستعقبها طفرة هائلة في النمو الاقتصادي والإنتاجية، تماماً كما حدث مع المحرّك البخاري والكهرباء والحاسوب والإنترنت. 

وأضاف: "عندما يحدث ذلك، يبدأ كل شيء بالعمل على مستوى المجتمع ككل. وإلا الأمر لن يعدو كونه كومة من وحدات معالجة الرسومات".

تصنيفات

قصص قد تهمك

OSZAR »